المسلمون فى ألمانيا


وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (آل عمران : 103)
الكلمة العربية "الإسلام" لها نفس أصل كلمة "سلام". وفى الإسلام يوجد فرص عظيمة متاحة للتعايش السلمى. للأسف نرى منها عملياً فرص قليلة فى الوقت الحالى.
هل تعلم, أننى أتعب من كثرة الشرح مراراً وتكراراً, ما هو الإسلام فى الحقيقة, كما أن ردهم علىّ يكون مراراً وتكراراً:
_"لكن جارى المغربى على العكس من ذلك تماماً."
أو_: "إن الطلبة الأتراك فى فصلى يقولون لى شئ آخر."         
كيف يمكننى إذا أن أدحض هذه الأقاويل؟ .. إن تعاليم الإسلام واضحة ومدونة, بينما تصرفات المسلمين على العكس من ذلك مفاجئة للغاية.
_"إنهم يعيشون هنا بنفس الطريقة التى تعودوا عليها فى قريتهم الأناضولية."

عندك حق , فكثير ما يعكس سلوك المسلمين عادات وتقاليد أكثر من الإسلام نفسه. بالضبط كما أن كل مسيحي ليس ضليع فى الإنجيل , فليس كل مسلم ضليع أيضاً فى القرآن.
وكما أن تعاليم  الدين المسيحي اختلطت على المدى الطويل بتقاليد متوارثة ليس لها أى علاقة بالإنجيل , حدث نفس الشئ كذلك لتعاليم الإسلام على مدار القرون, حيث اختلطت تعاليمه بالتقاليد المتوارثة , والتى يرددها الكثير من المؤمنين وكأنها جزء من الإسلام .. مع أنها ليست من الوحى فى شئ.

نذكر على سبيل المثال أعياد الكريسماس. إننا نتذكر جميعاً أيام العيد, والمخبوزات, والهدايا التى يعطيها لنا "بابا نويل". فلا يمكن أن نتخيل أبداً شهر ديسمبر بدون الكريسماس.إن عيد الكريسماس منصوص عليه فى تقويم الكنيسة بالرغم من أنه غير مذكور فى الإنجيل على الإطلاق.كما أن الاحتفال بعيد ميلاد المسيح لم يحدث فى حياته و لا أثناء المجتمعات المسيحية المبكرة بعده.
ولكن من يهمه الأمر ونحن مازلنا نستمتع بالاحتفالات!

حتى إن الكنائس نفسها تضع شجر الكريسماس أمامها, وتوزع الهدايا أيضاً. كما أن أرانب وبيض شم النسيم لم ترد فى الإنجيل. ورغم ذلك ما ذلنا نلون البيض كل عام وبأفضل الألوان والرسومات .. بالمناسبة, هذا البيض يرمز إلى الازدهار فى فصل الربيع, وهذا يعود أصله إلى زمن بعيد قبل ظهور المسيحية نفسها.
وما زال حتى يومنا هذا يحتل بيض شم النسيم مكانته المرموقة فى احتفالات الربيع فى بلاد فارس جنباً إلى جنب مع الخضرة المزدهرة وبشائر الربيع الأخرى.
هذا الشئ يحدث مثله عند المسلمين عندما يحتفلون "بمولد النبي محمد" فى المسجد, ويشترون مختلف أنواع الحلوى للأطفال. أو عندما تقوم العروس بتزيين يدها برسومات الحنة مساء ليلة الزفاف "الحنة".
فى الأساس تلك العادات لا تضر أحداً .. ولكن هناك عادات أخرى سيئة , كأن تحزن أى عائلة تركية عندما يكون المولود الجديد "فقط" أنثى.
"ألم يبقى أيضا عند النبى صلى الله عليه وسلم "فقط" البنات على قيد الحياة بعد موت أبنائه من الذكور فى سن الطفولة؟"
 "وأنه قد أحب هؤلاء البنات فوق كل شئ؟"
وما يثير غضبى بشدة أن تقوم طالبة بصرف مبالغ كبيرة للحصول على تمائم تجلب لها الحظ والتى من المفترض أنها تمنع عنها السوء. فيباع على سبيل المثال أحجار زرقاء, أو قلادات على شكل "يد فاطمة" .. الابنة الصغرى للنبى .

-"كل هذا سفه!"
إن كل مسلم يصلى خمس مرات يومياً ويقف بين يدى ربه ويتلو فى صلاته
_: "إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ"
تلك الأشياء التى تجلب الحظ دخيلة على تعاليم  الإسلام مثل: برج الحظ و التنبؤ أو تقديس "الأولياء" أيضاً.
إن الله وحده هو الأحق بالتقديس. 
وقد أُمر النبى نفسه بـأن يبلغ الناس بـتلك الآية الكريمة التى وردت فى سورة الأعراف:
_"قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُون(َ188) " 
يأتى المسلمون إلى هنا من مختلف دول العالم, يحملون معهم عاداتهم وتقاليدهم. وهم فى الغالب لا يظنون أن تلك الأفكار المتأثرة بتقاليدهم ليس لها شأن بالإسلام.وبعد كل هذا, فإن ذلك يتم تعليمه أيضاً فى المسجد. إن المسجد بالنسبة للمسلم خارج وطنه يصير قطعة من الوطن. فبينما لا يشعر المسلم داخل المجتمع الألمانى بالارتياح يجد السلام والراحة داخل المسجد. 
هنا .. فى المسجد , يتكلم المسلمون نفس اللغة, يفكرون بنفس الطريقة. فالعرب هنا لهم مساجدهم  والتى تماثل مساجد الأتراك ومساجد البسنويين أو الإيرانيين.
أما المسئولون عن تلك المساجد فهم جمعيات "ثقافية". 
يطلق على تلك المساجد "ثقافية" من قبل مؤسسيها أنفسهم , ذلك لأن مفهوم كلمة "إسلامى"  تدق كل نواقيس الخطر لدى السلطات الألمانية .. فى الحقيقة يناسب تماماً التعبير بكلمة "ثقافى" طبيعة أغلب تلك الجمعيات.
فى إحدى أول تجاربى مع المسجد وجدت أن الناس لا تفهمنى, على الأخص الجيل القديم, فقد صار هذا الجيل لا يتحدث اللغة الألمانية التى نتحدثها. ففى الغالب تكفيهم بعض الكلمات من أجل سؤال كالتالى: 
- "هل أنت زواج مسلم؟" مشيرين إلى خاتم الزواج الخاص بى, ويعقب بعد ذلك عبارة: - "آه .. فهمت ... "
هل علىّ أن أكون داخل المسجد العربى "مصرية"؟
"وفى داخل المسجد التركى "تركية؟"
"أو ربما "عربية؟"
"يكفى فى النهاية أن زوجى عربى أو ... ؟"
" حسناً .. على أى حال أنا لم أعد ألمانية "خالصة" أو هل  على أن أكون ... ؟ "

وحقيقة أنى لا أحمل اسماً "إسلامياً" تعيد أمرأ محيراً للآخرين. أنا نفسى لا أشعر مطلقاً أنى مصرية, وليس لدى رغبة فى أن أصبح تركية أو عربية أو أى شئ غير ذلك . ولماذا يجب على أن أغير اسمي؟
 وحقاً أن النبى محمد _ صلى الله عليه وسلم _ غير أسماء من دخلوا الإسلام فى عصره, ولكن كان السبب الأساسى هو أن تلك الأسماء كانت سيئة للغاية أو أنها تحمل معناً غير إسلامى. أما اسمي فلا هو غير إسلامى ولا هو يحمل معناً سيئاً. 
لماذا لا يمكن أن يكون هناك مسلمة تسمى "آنيا"
_" لكن عادةً لا يندمج المسلمون الألمان فى الواقع بسهولة فى الجمعيات الإسلامية الموجودة هنا. مزعجين جداً هؤلاء الألمان.. فهم يصرون دائماً على القرآن والسنة, ويعتزون بها بنسبة 150%, ويريدون تغيير كل شئ. كما يقومون بتفسير القرآن باللغة الألمانية فى المسجد ويساعدون التلاميذ فى واجباتهم المدرسية ويشجعون الفتيات على زيادة معلوماتهن بدلاً من أن يقمن فقط بشغل البيت.  بهذا يدخل التأثير الألمانى إلى كل بيت _ تركى أو عربى أو مصرى أو أى جنسية أخرى _ كما لو كان لا يوجد ألمان بما فيه الكفاية خارج المنزل. 
كما أن رد فعل المسلمين الألمان دائماً يتمثل فى العزلة. فهم  من جانب لا يريدون أن يكونوا أى شئ فى الجمعيات القومية أو الثقافية.ومن جانب آخر لم يعودوا يتواءمون مع المجتمع الألمانى فى نفس الوقت. لذا يقومون بتأسيس الجمعيات الخاصة بهم, وبعضهم يقوم بإحياء تراث الشرق القديم, فتجد الرجال ترتدى السراويل الفضفاضة والقمصان الطويلة والعمامة, أما النساء فيقمن بصنع لعب لأطفالهن على هيئة خيمة البدو التى تربط  فى الصحراء والأدوات اللازمة لذلك, حتى يتعلم الأطفال من خلال تلك الطريقة المسلية من هم "أسلافهم". بالرغم من أن المسلمون الأوائل كان يسكنون مكة, والتى كانت فى وقتها مركزاً تجارياً فى عهد النبى محمد وليست معسكر للبدو! ولكن أن نكون على نفس تلك الصورة بدقة .. فهذا لا ينبغى علينا أن نقوم به .. أم لابد من ذلك؟"          ( كلام المحاور)  
-" فى واقع الأمر .. ببطئ ولكن بخطى ثابتة .. تقوم الجمعيات الألمانية المسلمة بعمل مثالاً ألمانياً مساوياً لنظيرها من الجمعيات الشرقية, فتجدها تناقش موضوعات مثل علاقة الشاعر الألمانى جوتة بالإسلام , وتعيد كتابة الأغانى الشعبية الألمانية , وتقوم بعمل "نتيجة رمضان" للأطفال على غرار نتيجة التقويم الميلادى للأطفال, حيث يقوم الطفل فيها بفتح باب صغير فيحصل على هدية صغيرة كل يوم."
ربما يكون لدى كل هذه الجمعيات مبررها. فالإطار الذى يتيحه الإسلام واسع. كما أن كل فرد له الحق فى أن يتكلم لغته ويعيش ثقافته. ولكن للأسف بهذا الأسلوب تضيع فكرة الوحدة الإسلامية: "الأمة"
يذكر فى القرآن فى سورة  آل عمران الآية رقم 3:
"وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ"

إن اٍلإسلام دين يهتم  بتأسيس المجتمع. وليس الهدف أن نكون بتلك الدرجة الكبيرة من الاقتصار.على العكس من ذلك تماماً, فإن الهدف لابد وأن يكون الوصول إلى أقصى حد من الإجماع.
على المسلمين أن يعملوا معاً من أجل بعضهم البعض وليس ضد بعضهم البعض. ولقد حذرنا عز وجل من ذلك بوضوح فى الآية رقم 105 من سورة آل عمران:
"وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ"

بالطبع ليس كل مسلم كالآخر, وليس كل شخص يلبس بنفس الأسلوب, وليس كل شخص يطهو بنفس الطريقة أو يتحدث بنفس اللهجة. هل لابد وأن يكون! وإلا كيف يمكننا أن نتعلم من بعضنا البعض؟ ألا يذكر فى القرآن تلك الحقيقة فى سورة الحجرات, الآية 13:
" يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ"

هناك قدر كبير من التنوع متاح فى الإسلام , فيمكننا أن نتعلم من بعضنا البعض. وبدون البواعث الجديدة والمناقشات يصاب كل تطور روحى واجتماعى بالركود. هذا ينطبق أيضاً على الحوار السياسى. إن من واجب المجتمع  الإسلامى أن يدمج جميع التيارات المختلفة داخله, من أجل الوصول إلى رخاء المجتمع.

مرة أخرى .. إن النبى محمد _ صلى الله عليه وسلم _ قدوتنا فى ذلك .. فلقد كان ينصت لأصحابه ويجرى معهم المناقشات. كما حدث أثناء معركة بدر الشهيرة, حيث وقعت مواجهة كبيرة بين العدد الهائل لكفار مكة وبين المسلمين. ولقد وصف الكاتب محمد حسنين هيكل فى كتابه "حياة محمد صلى الله عليه وسلم" واقعة حدثت أثناء المعركة, وذلك عند اختيار مكان المعسكر , فذكر الكاتب مايلى:
"عندما وصل المسلمون بئر بدر, نزل محمد فى هذه المنطقة, وكان الحباب بن المنذر بن الجموح على دراية واسعة بهذا المكان, وعندما وجد أن النبى أراد أن يستقر فى هذا المكان سأله:
_ "يا رسول الله, هل هذا المكان أوحى الله لك أن تنزل به بحيث لا يمكننا التحول عنه إلى الأمام أو  إلىالخلف؟ أم أن هذا مسألة رأى خاص بالحرب وخدعة الحرب؟" 
فرد محمد صلى الله عليه وسلم :
_"بل هى مسألة رأى خاص بالحرب وخدعة الحرب."
هنالك قال له حباب:
_"يا رسول الله هذا المكان لا يصلح لإقامة الجيش, واصل السير مع أصحابك حتى تصل إلى أقرب بئر من قريش. هنالك سنتوقف, ثم نردم البئر خلفنا ونحفر خلفه حوضاً آخرنملأه بالماء, وعند محاربة الكفار نستطيع نحن الشرب, بينما هم لا يستطيعون."
علم محمد _ صلى الله عليه وسلم _ أن نصيحة الحباب صحيحة, فنهض هو وأصحابه واتبع رأى صاحبه.
من خلال ذلك التصرف استطاع محمد _ صلى الله عليه وسلم _  أن يفهم رجاله أنه ليس إلا رجل مثلهم, وإنه يجب عليهم التشاور فيما بينهم قبل اتخاذ القرار. فلو لم يكن الرسول يسمع آرائهم لم يكن يمكنه اتخاذ ذلك القرار. نعم .. إنه كان فى حاجة إلى نصيحة أحدهم.
حتى كبار الصحابة لم يكونوا دائماً على نفس الرأى. ولقد قارن النبى أبا بكر الصديق بالنبيين إبراهيم وعيسى لحلمه وقدرته على التسامح. بينما شبه عمر لشدته وإصراره بالنبى نوح وموسى. وبالرغم من تباين شخصية كل من أبى بكر وعمر بن الخطاب إلا إنه كان لهما مكانة رفيعة داخل المجتمع الإسلامى , فكانا هما أول من تولا الخلافة بعد النبى . وهذا معناه أنهما قد توليا قيادة الأمة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم. ولو حدث اختلاف فى الآراء بين المسلمين فسوف يتم مناقشة هذه الخلافات ومعرفة آراء المعارضين والمؤيدين. وحين يتم التوصل إلى قرار, فإن ذلك القرار يتم العمل به فى الحال. ولن يشعر أحد بالامتهان وينسحب بنفسه, ذلك لأن الناس لم تسمع لرأيه.

_ "ولكنك تجدين بعض القرويين يصرون على وضع معين لليد فى الصلاة أو على لون معين للحجاب. ويؤسسون الجمعية تلو الأخرى كما لو كان لا توجد مشكلات حقيقية أخرى أهم من ذلك."

هذا ما أردنا أن نقوم بتحسينه فى الجامعة, لذا قمنا بتأسيس جمعية خاصة بنا ... وبدأ كل شئ مع صلاة الظهر , والتى لا نستطيع أن نقوم بأدائها, كل ظهر, لأنها تتداخل مع وقت المحاضرات. إن كنت طاهرا فبإمكانك أن تصلى فى أى مكان. وإذا كانت الصلاة فى حيز خاص , فإن ذلك يكون شيئاً طيباً. لذا أخذت فى البحث عن قاعة قد فرغت لتوها, أو أقوم بالصلاة فى المكتبة .. أقصى الخلف, على أمل ألا يمر أحد وأنا أصلى. وكان الآخرين يفعلون نفس الشئ إلى أن قام أحمد وزميله "يوكسِل" بحل تلك المشكلة لنا جميعاً. فمعهدنا يقع فى أعلى طابق بأحد المبانى القديمة , وكان السلم يوصل إلى طابق آخر به موتور المصعد. فحصل كلاهما على موافقة المعهد فى استعمال بسطة السلم, حيث تم فرشها بسجادتين للصلاة .. وصلينا هناك.

وسمع الكل بذلك الخبر. وعلى الفور جاء طلبة آخرون من المسلمين, وصلوا هناك بعد الانتهاء من محاضراتهم. وقاموا بأداء الصلاة , فرادى أو جماعات .. الكتف فى الكتف .. القدم فى القدم. وعندما كنا نجلس منتظرين إقامة الصلاة حتى ينتهى آخر طالب من وضوءه أخذنا فى التعرف على بعضنا البعض أكثر وأكثر. وكان يوجد على الأخص الكثير من الطالبات المسلمات التركيات , تصادقت مع بعضهن.  

"نورتن" بدأت دراستها مع هايدى, ومعى أيضاً. وعندما بدأنا فى الظهور بالحجاب فى الجامعة فرحت نورتن جداً. فهى نفسها لا تلبس الحجاب, إلا أنها تود أن تغير من ذلك:
_"أنا لا أعرف كيف أبدأ؟ إن هذا الشئ ليس معتاداً داخل عائلتى. وأمى نفسها لم ترتدى الحجاب ولا مرة, وأنا إذا قمت بارتداء الحجاب فإن ذلك سيبدو وكأنى أقول لها, أنك لم تعيشى الإسلام أبداً بطريقة صحيحة."

لقد جاءا والدىّ نورتن منذ زمن طويل إلى ألمانيا. وكل أبنائهما الثلاثة ولدوا فى ألمانيا. ويقوم الوالدين بواجبات الدين بجدية, أما الحجاب فلم يتم التفكير فيه أبداً إلا فقط بمناسبة الذهاب إلى المسجد.
"ناديه" و"زلده" على العكس من نورتن, كانتا ترتديان الحجاب. وقد جاءتا الآن من محاضرات الرياضة لسماع محاضرة البرفيسور فلاطورى. وتعرفت نادية علىّ أنا وهايدى من خلال الجمعية المسلمة النسائية. ثم جائت فتاة أخرى إلى معهدنا تدعى "هوليا", يغلب على تصرفاتها مسحة عصرية, فحجابها فى بعض الأحيان لا يليق صورته تماماً مع وجود تلك السيجارة المسترخية بتوازن بين إصبعيها.
وكان يوجد ألمانى مسلم جاء بعد ذلك أسمه "منعم", جاء لتوه من قِدرة الدوسنتاريا * وكان  "منعم" يرتدى حذاء برقبة ويمسك بالسواك فى يديه. 
منعم كان يسكن معنا أنا ومحمد فى نفس المدينة الجامعية. على العكس من ذلك كان يوجد صبى آخر, فى مرحلة المراهقة, نزح من تركيا إلى ألمانيا, وبدأ دراسته بعدى بعام. وهو مشترك فى نشاطات الجمعية الشبابية التركية فى منطقته التى يسكن فيها. هذا معناه أنه يلعب الكرة مع غيره من الصبية.

وبالرغم من أنه يبدوا علينا من النظرة الأولى أننا مختلفين بشدة, إلا إنه توجد أشياء كثيرة مشتركة بيننا. فنحن تقريباً فى نفس المرحلة العمرية , ونكاد نتقابل يومياً فى الجامعة, كما أننا نتكلم نفس اللغة ونعيش فى نفس العالم أيضاً.
يبدوا وكأننا وجدنا محراباً يمكن للمسلمين منا أن يتواجدوا فيه. هذا المحراب كان يضم أيضاً الطلبة الأجانب من المسلمين. والذين كانوا يعيشون فى ألمانيا منذ زمن طويل, لدرجة أنه لم يعد بمقدورهم تعريف هويتهم التى تعود جذورها إلى ثقافاتهم الأصلية. وبالفعل يجد هؤلاء المهاجرين الشباب أنفسهم فى نوع من الفجوة الثقافية, تماما مثل الألمان المسلمين.
لقد اجتهد جيل الآباء فى المحافظة على قيم الثقافة "الإسلامية" داخل العائلة, وتعودوا على الانزواء إلى عالمهم الصغير, ويتقابلون فقط مع بلدياتهم المسلمين, ويتحاشون أى تقارب من "الغوايات" الأوروبية. أضف إلى أن نقص اللغة الألمانية, بل فى بعض الحالات انعدامها لم يؤدى فقط إلى صعوبة التعايش مع المجتمع الألمانى بل جعله مستحيل. وربما يجعل من ذلك إستراتيجية جيدة لهذا الجيل الأول من الآباء. على كل .. لا يكاد أحد منهم فعلاً يود أن يقضى شيخوخته فى ألمانيا. 


*المؤلفة تقصد محاضرة الأحياء, فهى أحياناً تستخدم لغة الشباب داخل الجامعة, والتى تعد فرعاً من اللغة العامية.
ولكن ذلك يختلف عند الجيلين الثانى والثالث.  فالكثير من الشباب يقضون وقتهم فى المدرسة أكثر مما يقضونه داخل المنزل. ويقرءون جرائد ألمانية, ويشاهدون برامج ألمانية, ولديهم أصدقاء ألمان. كما أنهم يتكلمون اللغة الألمانية بطلاقة أفضل من "لغتهم الأم", ولا يفكرون مطلقاً فى العودة إلى بلد لا يعرفونه إلا من خلال قضاء الإجازات.
إن هؤلاء الشباب يعيشون فى عالم ظل غريباً عن آبائهم رغم كل تلك السنوات الطويلة.والشاهد على ذلك أنه حدث ذات مرة أن كان فى المسجد أحد الآباء العرب, وأخذ يحكى بفخر كيف أن ابنه حصل على الدرجة النهائية فى مادة الدين الإسلامى, ولم يتوقف إلا بعد أن أخبره أحد الحاضرين , بأن تلك المدرسة بالذات لا تُدرس فيها مادة التربية الدينية الإسلامية مطلقا .. لقد كان ابنه يحضر حصص الدين المسيحى!!!
الشاهد على ما سبق أيضاً, أنه كانت هناك فتاة تركية  تخرج من البيت كل صباح بالحجاب أمام والديها, ثم تقوم بإخفائه فى حقيبتها عندما تصل إلى محطة الأتوبيس. أو ذلك المراهق العربى الذى يدخن مع أصدقائه, أما فى منزله فلن يجرؤ على مس علبة السجائر احتراماً لوالديه فقط.

إن الآباء والأبناء ينقصهم كل سبل التواصل العادى. فالآباء لا يرغبون فى سماع أى شئ عن العالم "الخارجى". وفى هذا العالم "الخارجى" تبدو الحياة غريبة جداً عليهم. لذا يبدأ الأبناء فى فصل عالمهم "الألمانى"  عن عالم والديهم. فهم فى "المنزل" يتحدثون شيئاً غير ما يتحدثون به فى "الخارج" وفى "المنزل" يفكرون بطريقة غير التى يفكرون بها فى "الخارج" ولم يعد الإسلام بوضوح ينتمى إلى عالم "المنزل", وإنك لتجد أحياناً أن الأطفال لم يعد بمقدورهم وصف حتى أقل تعاليم دينهم باللغة الألمانية. إن ذلك لا يدعو إلى الدهشة, ضع فى اعتبارك أن كل ما تعلمه هؤلاء الأبناء عن دينهم , تعلموه من خلال لغة  والديهم. كما أن المعلمين داخل المسجد يأتون من خارج ألمانيا, وليس عنهم فكرة عن الحياة فى أوروبا, وليس بمقدورهم صنع أى تواصل بين الإنسان والحياة اليومية لهؤلاء المراهقين داخل المجتمع الألمانى.
وحقاً أن هناك بعض المدارس الألمانية قد بدأت فى تدريس الدين الإسلامى إلى جانب الدين المسيحى إلا أن ذلك يتم باللغة "الأم" لمعظم الطلبة المسلمين, أى اللغة التركية, كما أن الكثير من المدرسين يأتون من تركيا مباشرة, أما إن وجد  طالب من أبناء العرب ولم يفهم كلمة مما قيل داخل الحصة, فإن ذلك لا يتسبب فى مضايقة أحد!!!  على أى حال أصبح واضحاً تماماً الهدف الذى تسعى إليه هذه الدروس. وهو تهيئة هؤلاء الطلبة إلى عودة سهلة إلى بلدهم الذى ينتمون إليه مع دينهم.
هلا نصبح واقعيين, ونعلم أن نسبة ليست ضئيلة من هؤلاء الصبية لن تغادر ألمانيا. إننا نربى هنا جيلاً أوروبياً جديداَ من المسلمين, وبأيدينا ما يتربى ويصير عليه هؤلاء الأطفال.
إلا أننى قد قابلت مراهقين قاموا بتصميم برامج باللغة الألمانية للقرآن والحديث باستخدام الكومبيوتر , بها العديد من وظائف البحث تتم فى سرعة فائقة. ومن إنجلترا جاءتنا "الفوازير الإسلامية" على دسكات , مصورة ومرتبة حسب درجة صعوبتها, وموضوعاتها كانت عن العبادات والتاريخ والجغرافيا.
وأثناء أحد اللقاءات الشبابية كان هناك أطفال يؤدون إعلانات إسلامية للتلفزيون الألمانى وسجلوا ما قاموا به على شريط فيديو, ثم انتقلوا إلى مضامين إسلامية:
_"الإسلام دينى, الإسلام دينك, الإسلام دين لنا كلنا هنا."
ولقد أحيوا أمسية بهيجة, غنوا ورقصوا, واندهشت أثناءها من موهبتهم التمثيلية وغزارة أفكارهم.
إن الإسلام بالنسبة لهؤلاء الأطفال لا يعد عيباً, ولم يصبح عائق فى طريق مستقبلهم. وللأسف قلما يوجد مثل تلك المناسبات للأطفال والمراهقين المسلمي ن, والتى تساعدهم بدورها فى تقوية الثقة بذاتهم. كما أن أغلب هؤلاء الأطفال يقضون حياتهم منعزلين فى بيئة تعتبر الإسلام شيئاً رجعياّ وغير ضرورياً.
لهذا عزمنا نحن طلبة الجامعة على الإعداد لمثل تلك اللقاءات والمناسبات الشبابية باللغة الألمانية فى مدينتنا. وأردنا إحضار هؤلاء الأطفال والمراهقين معا إلى المسجد. فكان عليهم أولاً أن يتخلوا عن شعورهم بـأنهم لا ينتمون إلى أى مكان أثناء وجودهم معنا فى المسجد. الإمام الذى زوجنى بمحمد , أيدنا على الفور منذ البداية, فلقد كان له أيضاً أبناء فى سن الدراسة أيضاً.
وقدمنا لقاءات أسبوعية, فكنا نتكلم مع الأطفال ونلعب معهم. ونقوم بتنفيذ بعض المهارات اليدوية, وبالطبع كنا نصلى معاً.وأيضاً كنا نساعدهم فى عمل الواجبات المدرسية, على الأقل فإن ذلك وجد استحسان لدى إدارة المسجد. وكان شئ طيب أن نستغل طلبة الجامعة الألمان فى هذا المشروع, وإلا كان هناك من يتشكك فى أمر هذا المشروع برمته. ولكن بمشاركة كل من هايدى و اليزابيث وأحمد ومحمد أيضاً فى ذلك المشروع ساعد على طمأنة إدارة المسجد قليلاً.فعلى الأقل شخص عربى ينبغى أن يشارك فى هذا المشروع. وبعد إلحاح من جانب الإمام أنضم أول طفل إلى تلك اللقاءات الأسبوعية, ولكنهم لم يكونوا بالكثرة التى كنا نتمناها. لكن يكفى أنهم كانوا مبسوطين ويصرون على الحضور بانتظام, وتصادقنا فى الحال مع "أطفالنا".
كانت هايدى بمثابة الأخصائية الاجتماعية التى كانت تعتنى بكل المشاكل المدرسية لهؤلاء الأطفال. فلقد كانت مهيأة لأن تكون معلمة. وفى الحال كان لها اتصالات منظمة بالمدرسين وإدارات مدارس شتى.

نعيمة بدأت فى ارتداء الحجاب بالمدرسة. وكريمة نوت أن يتم إعفاءها من المشاركة فى حصص السباحة المختلطة فى المدرسة. وياسمين .. جديدة فى ألمانيا, كانت تواجه صعوبات فى تعلم اللغة الإنجليزية وهى فى الصف الثانى الإعدادى. فلقد تعلمت اللغة الفرنسية فقط فى وطنها بالمغرب, والتى تتحدثها بطلاقة. حتى أن أخوها الأصغر كان يجد صعوبة فى قراءة كتاب مادة التاريخ الألمانى, أو أن يفهم المسائل الحسابية فى كتاب الرياضيات.
ومن المحزن بدرجة تفوق التصور أن يجرد هؤلاء الأطفال من فرصة إتمام تعليمهم بنجاح, والذى سيكون بمثابة حجر الأساس لمستقبلهم.

 أما فوزية على العكس من ذلك, التحقت بالصف الأول الابتدائى, وليس عندها أى مشاكل. وكان أخوها ذو الأربعة سنوات يجلس بجانبها, ويقلد بحماس كل ما تكتبه فى أوائل واجباتها المدرسية. رشيدة فى الصف الرابع, جاءت ذات مرة ومعها BRAVO  وهى مجلة ألمانية تهتم بشئون المراهقين. ولم يعلم أبويها ولا مرة  بوجود تلك المجلة بحوزة ابنتهم, كما أنهم لا يعرفون عن مثل تلك المجلات شيئاً. كما أن رشيدة مازالت صغيرة لتعرف ماذا تعنى "الدورة" .لذا حاولنا نحن الطلبة الجامعيون أن نعد هؤلاء الأطفال ونهيئهم للترابط بين حياة داخل المنزل والحياة اليومية داخل المدارس الألمانية.

وبدأ الأطفال نفسهم أيضاً فى تبادل الأشياء مع بعضهم البعض, وأخذوا فى مصادقة بعضهم البعض. ثم بدأنا بعدها بإحضار الألعاب. نعم .. لقد أحضرنا طاولة لممارسة تنس الطاولة. وأنشأت هايدى مكتبة صغيرة لاستعارة الكتب, كما أن أمها المسيحية قامت بعمل فصول لتعليم الخياطة أثناء الأجازات. وأحياناً كنا نقوم برحلات مع الأطفال ونذهب إلى المتحف أو أحد المتنزهات المفتوحة.
ونجحت إدارة المسجد لأول مرة هذا العام فى تأجير إحدى الصالات مرة واحدة مساءاً كل أسبوع لمدة ساعتين لممارسة السباحة, وهنا كانت هايدى مرة أخرى تقوم بدورها كمدرسة ألعاب, فلقد كانت مسئولة عن تدريب الفتيات والنساء والصبية أقل من 14 سنة, كما إنها استطاعت أن تحصل على اعتراف من المدارس بحصص السباحة التى تقوم بإعطائها. فتمكنت "بناتنا" من المشاركة فى حصص السباحة عند هايدى, بدلاً من حصص السباحة الإجبارية المختلطة داخل مدارسهم.
وصار المشروع برمته أكثر  وأكثر مهلكاً للوقت, ليس فقط بالنسبة لهايدى ولكن أيضاً بالنسبة لنا جميعاً. فلم يعد يتبقى لنا وقت للمذاكرة, أو حتى التفكير فى حياتنا الخاصة. وهايدى التى دخلت امتحاناتها بفترة وجيزة فى تلك الفترة بعثت النشاط مرة أخرى فى هذا المشروع بعد نجاحها فى الحصول على موافقة بالعمل كمدرسة لمدة سنتين فى المسجد. هكذا أصبح لدينا كدر عمل طوال الوقت. وبدأت هايدى فى تقديم عرض بإعطاء حصص إضافية فى اللغة الألمانية لربات البيوت, وصار بإمكان الأطفال استغراق وقتهم فى مساعدة كل على حدى فى دراستهم, بل وتمكنت هايدى من اجتذاب بعض الطلبة الجامعيين وإقناعهم بمعاونة التلاميذ لعدد معين من الساعات أسبوعياً, كما أنها نجحت فى إقناع إدارة المسجد بإعطاء بعض هؤلاء الطلبة مكافأة مالية نظيراً لوقتهم.

للأسف بدأ يخمد شعور  العمل الجماعى قليلاً فى ذلك النظام الجديد, فلقد كان النجاح فى المدرسة من وجهة نظر الآباء أكثر أهمية من اللعب معاً. فالأطفال ممكن أن يلعبوا فى البيت, وهم ليسوا فى حاجة إلى الذهاب إلى المسجد للعب هناك.
لهذا انتهت بعد فترة من الزمن تلك اللقاءات الأسبوعية.

بينما فى الجامعة على العكس من ذلك تزايدت أنشطة الطالبات المسلمات , فكانت الطالبات التركيات يتبادلن الزيارات فى منازلهن بالتناوب.وكان يأتى لهذه اللقاءات 20 أو 30 فتاة تقريباً, وكان صعب علينا متابعة دروسنا. إلا أن دائرة معارفى للمسلمات كانت تتزايد باستمرار. فقد كانت تأتى فتيات من مدن أخرى للزيارة, وكذلك بعض السيدات ممن ليس لهن شأن بالجامعة  فلقد حضرت ممرضة ومحاسبة وجليسة أطفال. وبالرغم من عدم وجود أشياء كثيرة مشتركة بيننا إلا إنه كانت تربطنا الحقيقة الواقعية, وهى أننا ننتمى إلى الأقلية المسلمة. وهكذا نشأ عن تلك المقابلات المتقطعة الكثير من الصداقات الشخصية, فـ"الأخوات" كن يشاركن فى إعداد الأبحاث, وركوب الدراجات, أو يذهبن للسفر معاً لقضاء الأجازة.
وذات صباح جاءت نورتن بالحجاب إلى دورة اللغة العربية:
_"هل تعلمن, هذا اليوم فى الصباح الباكر خطر على بالى الحجاب فجأة, فارتديته فى الحال."

ومنذ ذلك اليوم لم أعد أرها وسط الناس بغير حجاب. وكما هو متوقع حدثت منذ البداية بعض المناقشات فى عائلتها وجيرانها. و"دي لك" , أخت نورتن الصغرى حكت لى فيما بعد قائلة:
_"لقد اعتقد الجيران على الفور أن نورتن قد تزوجت, لأنه لا يخطر على بالهم أنها باستطاعتها أنت تقوم بمفردها بهذه الخطوة."
إن الأقارب من ناحية أخرى سواء فى ألمانيا أو فى تركيا يجدون أن نورتن ذات العشرين عاماً مازالت صغيرة على ارتداء الحجاب. وكان تعليق "دى لك":
_"إن كلهن يعتقدن أنه مازال هناك الوقت أمامهن, عندما يبلغن سن الأربعين .. من قال لهم أنهن سوف يبلغن ذلك العمر؟!"
إن "دى لك" نفسها لا ترتدى الحجاب. إلا إنه بعد  فترة من الزمن حذت أم نورتن حذو ابنتها وارتدت الحجاب.
وفى الجامعة .. فكرت الطالبات التركيات بتخصيص ركن صغير خاص بهن لأداء الصلاة, هنالك كانت بسطة السلم بالعهد والتى كانت صغيرة جدا. فبالكاد كانت تستطيع أربعة فقط تأدية الصلاة فى جماعة, مما أدى إلى بعض  من الانتظار فى الممر أثناء "أوقات التصادم" عقب الخروج من محاضرات البروفيسور فلاطورى, وقد تسبب هذا فى استياء هيئة المعهد. وكان السؤال المعتاد:
_"هل عليكم أن تلتقوا كلكم داخل الممر؟"
فوق هذا الركن الذى كنا نصلى فيه توجد بسطة أخرى تحت سقف الدور المؤدى إلى منور المصعد, وما عدا حارس المصعد لا يأتى أى أحد. ومنذ متى يأتى هؤلاء الحراس إلى هذا المكان؟!
وبسرعة تم مناقشة الخطوات الضرورية. وفى الحال تقدمت كل من "نورتن" و"زلده" و"ناديه" و"هوليَّا" بشراء دهان أبيض وبدأن فى العمل .. وكانت النتيجة زاوية صغيرة لطيفة بها صور إسلامية معلقة على حوائط جديدة بيضاء اللون. ثم فرشت الأرض بسجادة. وكانت سجادات الصلاة تلف بعد الصلاة بعناية وتحفظ فى صندوق استعداداً للاستخدام حين الحاجة, حتى أن الفتيات قد ركبّن مصباحاً ذو سلك طويل متصل بكهرباء المعهد ينتهى طرفه بالطابق الذى تحتنا. ووضعت هناك بعض الكتيبات والمجلات يستعين بها المرء فى قضاء وقته, ذلك لأننا كنا نقضى وقت فراغنا بين المحاضرات فى تلك "البسطة سابقاً". حتى أننى قمت بكتابة أحد أبحاثى هناك. وفى رمضان _ شهر الصوم _ تجتمع هناك بعض الطالبات قرب المغرب لانتظار الوقت الذى يتناولن فيه إفطارهن المكون من خبز البوريك وسلطة البطاطس.
غالباً ما كنا نجتمع للصلاة, مثل "الأخوة" كذلك. وقمنا مرات عديدة بتأدية صلاة الجماعة فى البسطتين , رجالاً ونساء.
للأسف لم تطل فرحتنا بروايتنا الخاصة, فلقد أخبرتنا إدارة المعهد أن استخدام بسطة السلّم بهذه الطريقة لا يمكن الصبر عليها.
لماذا؟! .. لقد صارت الناس تتكلم عنا. ومن بين الأسباب الأخرى أن معهدنا صار  مشهور فى ألمانيا بأنه "معهد ملحق بأحد المساجد" يقصدون "بسطتنا!", وأنه تم إجبار أحد الفتيات على ارتداء الحجاب, يقصدون "نورتن!", وأن الأصوليون المتشددون , يقصدون "زملائنا!"  يمارسون الضغط على زميلاتهم ويجعلونهن يصلون غصباً فى آخر الركن, يقصدون "ركن النساء!"
وبغض النظر عن كل تلك الاتهامات إلا أنها كان هناك شئ لا يحتمل, وهو قولهم بأن الأجانب يجتمعون أمام باب المعهد ويتحدثون بصوت عال بلغة أجنبية ويضحكون. فمن ذا الذى يعرف فيما يتحدثون أو عمن يتحدثون. لهذا شك البروفيسور قائلاً:
_"لابد وأنهم يضحكون على."
وبالطبع قمنا بالاحتجاج. ولقد أخبرنا مدير المعهد أنه ليس لنا الحق فى المطالبة بتخصيص مكان للصلاة داخل المعهد فى المقام الأول,  وإلا سيكون من حق أى شخص فى المطالبة بنفس الشئ مثل البوذيون والهندوس أو أى طائفة أخرى. وأضاف قائلاً ملمحاً إلى السكرتيرة والتى يبدو وأنها واحدة من المتذمرين من مكان الصلاة:
_"ولكن لأكون واقعياً أنا أتوقع أى أحد أن يطالب بتخصيص مكان للصلاة, إلا أنت."

بل لا يزال مصراً على أن "نشاطاتنا" يجب أن تتوقف على الفور, وأن "عزالنا" يجب أن يختفى. إلا أن البسطة الأولى ظلت تستخدم للصلاة, فلقد تمكن أحمد و"يوكسل" من أخذ تصريح باستخدامها _ على سبيل الاختبار – وفقط .. كان استخدامها للصلاة.

أثناء تأدية صلاة الجمعة وأثناء مساعدة التلاميذ فى واجباتهم بالمسجد خطرت لنا فكرة تأسيس جمعية طلابية .. جمعية متعددة الجنسيات,  مستقلة, أساسها الديمقراطية, ألمانية اللغة, وإسلامية على وجه الخصوص. فقمنا بطبع دعوة لطيفة إلى "المسلمين". على الأقل فهذا هو العنصر الذى سيربط بين الأعضاء المطلوبين. رغم أنه كان يقبل بانضمام الطلبة من غير المسلمين. وكانت الدعوة مكتوبة بطريقة بسيطة وموضوعية. فكتبنا بها أين ومتى نريد أن نتقابل لنتعارف على بعضنا, وأننا نأمل بذلك أن نؤسس جمعيتنا الجديدة. 

وتم نسخ هذه الدعوات, ووزعت علينا لتعليقها على الحائط فى الجامعة. وفى الثلاثة أيام التالية كنا نعلق فيها الدعوات مرة بعد مرة على الحائط,ذلك لأنه كان هناك دائماً من يمزقها أو يلصق عليها إعلانات أخرى. وأثناء الاجتماع الأول فى المسجد العربى حضر مايقرب من 60 فرد. كما حضر الأمام أيضاً. وفوجئت للغاية عندما علمت أنه  مازال مقيداً نفسه طالباً فى معهدنا, فأنا لم أره أبدا فى الجامعة. ولقد حكى لنا عن أحد الجمعيات الطلابية المسلمة التى كانت توجد فى "مصر" وحتى أنهم كانوا يصلون الجمعة معاً. إلا أن هذه الجمعية قد انفضت يوم ترك الطلبة الناشطين الجامعة, بعد أن انتهوا من دراستهم الجامعية. وعرض الأمام علينا تنظيم جمعيتنا الجديدة وأن يقف بجانبنا بالقول والعمل. 
إن لديه فعلاً خبرة , وعنده بالتحديد تصور تام عما يمكن صنعه. لكن هذا ما لم يدور فى خلدنا بالضبط وهو أن يكون الإمام مسئول عن تأسيس الجمعية الجديدة .. ولكن كيف تستطيع أن تخبر إماماً فى "مسجده" بالرفض بطريقة لطيفة؟

"منعم" .. الألمانى المسلم .. الذى كان يرأس الاجتماع ذلك اليوم أعطانى مثالا فقال:
_"شكراً لك على نصيحتك الطيبة .. بالتأكيد سوف نضعها فى الاعتبار .. هل عند أى أحد شئ آخر يريد أن يقوله؟"

بهذا التصرف أغلق الموضوع .. وقمنا بتعيين اللجنة فى ذلك اليوم والتى ستقوم بدورها بإعداد لائحة الجمعية الطلابية الجديدة. وكانت هذه اللائحة مهمة جداً بالنسبة لمنعم, فهذه اللائحة ينبغى أن تحمى أهدافنا الأساسية مثل الاستقلالية, واللغة الألمانية, وبالطبع الشخصية الإسلامية.  وحاولنا أيضاً تشكيل مجموعة تقوم بتولى ذمام الأمر فيما بعد.
وكان من رأى محمد أن تلك الشروط الخاصة المفصلة غير ضرورية, وأنه لابد أولاً من تسجيل تلك الجمعية وترخيصها فى الجامعة.
_"ولكن باستمرار الألمان يدمرون أدمغتهم نتيجة التفكير فى مشاكل لا تحدث فى الحقيقة أبداً."
هو ليس غلطان فى هذا الشأن.
_"لكن ماذا فى حالة لو ... , دعنا نفكر فى الإمكانية النظرية لحدوث ......"
هذا بالفعل هو بداية أحد الأسئلة التى يتميز بها الألمان.
فمثلا نحن الألمان نميل إلى تكرار الآراء التى ذكرت على الأقل ثلاث مرات, والمرة الرابعة يجب أن تكون بكلماتنا الخاصة. غرابة .. ربما تعود إلى سابق عهدنا بالاختبارات الشفهية عندما كنا تلاميذ, حيث كانت تعتبر المشاركة داخل الفصل لها العامل الكبير فى التأثير على توزيع الدرجات, ولكن تلك الغرابة هنا فى هذا الموقف الآن ترجع إلى أنها فى المناقشة تعد مضيعة للوقت ولها قليل الأثر.
والعرب مختلفين عنا فى هذا الشأن تماماً, فهناك لا يناقش أى شئ فى المدارس البتة, لذا تعلم الطالب أن يغلق فمه إن لم يكن ليس لديه شئ هام ليقوله. والآن رغم تلك المشاركة الألمانية إلا أنه قد انتهى إعداد مسودة اللائحة. وكان منعم سعيد بذلك أيضاً وقال:
_"ولو أن تلك الجمعية تغلغل فيها الملحدون فلسوف أذهب وأقوم بتأسيس جمعية أخرى." 
وأخيراً جاء اليوم الكبير لتأسيس الجمعية, وقمنا بإعداد اقتراحات لتسمية الجمعية. بعدها انتخبنا طاقم الرئاسة الأول لنا المكون من 5 رؤساء. فكان بإمكان كل شخص كتابة حتى 5 أسماء من الأعضاء الحاضرين ثم نقوم بحصر تلك الأسماء بعد ذلك. وقد تم انتخاب أصحاب الفكرة بتأسيس هذه الجمعية تقريباً بأغلبية ساحقة, فكانوا: محمد وأحمد ومنعم وعلى وأنا.
بعد ذلك قدمنا التماساً إلى الجامعة, وتم تعديل اللائحة مرتين أخرتين بناء على رغبة العديد من الأعضاء. ثم ووقع على البروتوكول 30 عضو مؤسس تقريباً .. وهكذا أصبحنا جمعية طلابية مسجلة. وفعلاً اختتمت اللائحة  كما أعلن محمد, تماماً بعد تأسيس الجمعية, واختفى كذلك جزء كبير من الأعضاء المؤسسين. وتم بدء عمل الجمعية بالفعل. وكانت الجمعية تتقابل مرة واحدة أسبوعياً فى الجامعة, حتى أننا كنا نستخدم قاعة التبادل الأكاديمى. وثبت أن وجود عدد من الطلبة من الأجانب فى جمعيتنا أنه ميزة. وكان يأتى محمد وعلى إلينا  ليؤكدوا علينا مكان القاعة التى سنتقابل فيها كل أسبوع. وكانت القاعة عبارة عن بدروم كبير حوائطه بيضاء اللون متسخة, بها عدد من المقاعد والطرابيزات. وفى الغالب تلك القاعة كانت تستخدم لإقامة الحفلات. وكانت هذه القاعة مقارنة بالقاعة التى كنا نصلى فيها قبيحة المنظر بطريقة لا يمكن التعبير عنها .. إلا أنها كانت تكفى بالغرض.
وكان يفد إلى الاجتماع الأسبوعى 30 طالب وطالبة تقريبا. وفى تلك الاجتماعات كنا نلقى محاضرات عن مواضيع إسلامية مثل "الإسلام فى إندونيسيا" أو "مالكوم أكس" مستوحاة من نفس اسم الفيلم أو "السلوك الإسلامى" من الناحية العملية وعلى وجه التحديد طبقاً للقرآن والسنة. وكان يفد ضيوف من المحاضرين, فكان يقوم أعضاء جمعيات المساجد بتعريف "جمعيتهم".

وكان الطلبة الألمان يقومون بالتحدث عن مواضيع رسالتهم فى مجال "الأقليات الأجنبية فى  ألمانيا", وكان هناك طلبة يتكلمون عن بلادهم أو عن قضاء الأجازة فى بلاد إسلامية. وكنا نتناول المخبوزات ونشرب الشاى بينما كنا نتكلم عن آخر الأخبار. وكنا نخبر بعضنا البعض أين يمكننا شراء الملابس الإسلامية المناسبة وما هى الجمعيات التى تنظم أياماً للسباحة الإسلامية , وأين يمكن أخذ دورات مجانية فى اللغة لعربية. وبالفعل كانت الجمعية تقدم من وقت لآخر دورات لتعلم اللغة العربية, وأيضا دورات فى تعلم الرسم على الحرير. وكنا ننظم رحلات إسلامية وأسواق خيرية وما شابه ذلك حت وصل عدد المشاركين فى تلك النشاطات يصل إلى المائة.
حتى أن أعضاء الجمعية قاموا بطبع فانلات عليها شعار جمعيتنا الجديدة:
"نعم, نحن مسلمين"



أيضاً ابنتى تسنيم كانت ترتدى مثل تلك الفانلات عندما كانت طفلة رضيعة. وكنا نبيع تلك الفانلات ونستخدم عائدها فى أعمال الخير التى نقوم بها.
وعند بداية كل فصل دراسى كنا نضع إعلاناتنا على لوحة خشبية لإعلام الطلبة الجدد بأماكن تواجدنا. ومن أجل استجلاب جمهور أكبر قمنا بتنظيم "الأسبوع الإسلامى" داخل الجامعة بالتعاون مع إحدى الجمعيات الإسلامية الأخرى, وقمنا بعمل معرض عن "تاريخ الإسلام فى ألمانيا" فى البهو المؤدى إلى قاعات المحاضرة. وكنا ننظم محاضرات مسائية لمدة أسبوع أو نعرض فيلم "الرسالة"
لقد كان صدى اهتمام الجمهور كبير للغاية, وكان التردد على اللوجة الخشبية جيدا  تماماً مثل التردد على معرضنا وندواتنا وبقية أنشطتنا. وفى نهاية البرنامج الرسمى نشأت مناقشات غزيرة مع الجمهور.
بصفة عامة كان شئ جميلاً أن يتاح مجال للحوار يتمكن فيه المسلمين وغير المسلمين من الالتقاء وإجراء المناقشات. حتى أن إدارة الجامعة أرسلت لنا خطاباً ترجو فيه منا أن نكتب اسم الجمعية فى المرة القادمة بخط أكبر, لدرجة أن الأسبوع الإسلامىصار حدثاً رسمياً فى الجامعة.
وبذلنا جهدنا منذ البداية فى ألا نكون جمعية أخرى يضاف اسمها إلى تلك القائمة الطويلة لأسماء جمعيات من أولئك الاتى تتنافس على لقب التمثيل "الحقيقى" عن الإسلام. لذا رحبنا بأن يكون من بين أعضاء جمعيتنا مسلمين من مختلف الجمعيات الأخرى وكذلك ذوى الآراء الأخرى. فلقد كنا "محايدين" إسلامياً. وربما كان الأمر للمثقفين الألمان أفضل فهم يقلقون على كلمة "إسلامى".
_"نحن لا نسير فى الشوارع مع نساء محجبات. نحن نتوقع منكن أن تكونون أكثر تفتحاً."
دائماً ما كان يقال لنا هذا الكلام من العديد من ممثلى المنظمات النسائية لحقوق الإنسان, عندما تراجعوا عن دعوتهن لنا للمشاركة فى إحدى المظاهرات النسائية لصالح نساء البوسنة.
لقد كنا محايدين بالدرجة الكافية, حتى أن رجال الكنيسة كانوا على اتصال بنا, وكانوا يطلبون محاضرين عن الإسلام أو مشاركين فى المناقشات. وكان الصحفيين من قبل الإذاعة يأتون إلينا لطلب الآراء الإسلامية, وكذلك الطلبة فى قسم الدراسات الشرقية الذين يريدون تنظيم زيارات إلى المساجد. كما تمكنا أيضاً من صنع شئ لصالح لاجئى البوسنة , حيث قمنا بجمع الملابس والتبرعات المادية بالتعاون مع أحد منظمات الإغاثة الإنسانية البسنوية لمساعدة اللاجئين.
لقد كنا محايدين بما فيه الكفاية .. فلقد اجتذبنا طلبة مسلمين من جميع أنحاء العالم: أتراك وعرب وألمان وشاباً إندونيسيا و آخرأمريكياً وفتاة سويدية و آخر إيرانى. هؤلاء فقط على سبيل الذكر وليس الحصر ممن كانوا يتوافدون على اجتمعاتنا. فكان الألمان يساعدون  زملائهم الأجانب فى كيفية مواجهة البيروقراطية الألمانية, فتعلموا أنه ليس من السهل أن تكون أجنبى فى ألمانيا. وصار الطلاب الذين ولدوا فى أسر مسلمة يفكرون فيما سيحدث عندما يكونون فى  أسرة مسلمة – فى أفضل الأحوال _ غير مهتمة مطلقاً بالإسلام.  ببطئ بدأت أفكارنا فى التلاقى.
بالطبع كان التعامل مع أناس كهؤلاء يمثل تحد للأعضاء. فمنذ البداية كان عندنا عدم موافقة دائمة على ممثلى الأراء المتشددة فى الأحكام الإسلامية .. فمنهم من يقول:
_"لماذا أضع نفسى فريسة للشك وأترك نفسى أواجه تلك الفتن بلا ضرورة؟"
أما ممثلى الجناح المتحرر فكانوا يقولون:
_"على أى حال .. لابد وأن يكون الإسلام فى القلب."
 فى القرآن .. من المفترض أن يكون المسلمين بعيدين عن كل أنواع التطرف:
" وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شهيدا "   (البقرة 143: )
ولكن فى بعض الحالات كان من الصعب إيجاد طريق وسط بين الاهتمامات الشرعية لمختلف الجوانب. على سبيل المثال اتضح أن نظام ترتيب المقاعد أنه مشكلة. هل يمكن أن يجلس الرجال مع النساء؟ أم منفصلين؟ وإن انفصلنا ما هى المسافة المناسبة بين الصفين؟ وطلب كذلك الطلاب من زميلاتهن أن يرتدين بطريقة محتشمة:
_"نعم .. هل هذه جمعية إسلامية أم ماذا؟"

نحن لم نكن نريد أن نبدو متفتحين أمام  الآخرين, لكن كنا نريد من ناحية أخرى أن نعطى الآخرين فكرة جيدة عن جمعيتنا الإسلامية وأن نرى الناس ذلك.
لذا اتفقنا أن يجلس الرجال والنساء معاً فى قاعة واحدة ولكن على موائد منفصلة وأن تلبس النساء ما تريد.

طبيعى لم يكن كل الأعضاء سعداء بهذا الحل, ولكن أيضاً لن يسير الحال دون وجود حلول وسط.  هذا كان لابد من قبوله من جانب الذين يعشقون حريتهم أكثر من أى شئ أخر, ولم يتعلموا أبداً احترام مشاعر الآخرين. وكان ذلك أيضاً نفس الشئ بالنسبة للآخرين الذين يضيقون حدود الإسلام على أنفسهم وعلى الآخرين, وجعلوا من واجبهم تذكير الآخرين بأن يعيشوا حياتهم بطريقة "إسلامية" أكثر. فكانت "الأخوات" تمنع "الأخوات" من أن يقصوا شعرهن بطريقة تشبه الرجال, ويعطينهن إرشادات وتوصيات لشئون الحياة اليومية:
_"ولكنك لا تستطيعين أن تقبّلى صديقة لك فى الشارع على وجنتها, ماذا لو رآك "أخ" تفعلين ذلك؟"
وخصوصاً الطلبة العرب كان يحثون على تعلم اللغة العربية:
¬_"على كل مسلم تعلم اللغة العربية, وإلا فإنه لن يستطيع قراءة  القرآن.  حقاً .. لابد لنا أن نتكلم اللغة العربية فى الجمعية, فكلنا مسلمين على أى حال و اللغة العربية هى لغة المسلمين."
ودائماً ما كانوا ينادون بصلاة النوافل:
_"إن الصلوات الخمسة المفروضة هى الحد الأدنى الذى يمكن تأديته, لهذا من الطبيعى أن نصلى النوافل بالإضافة إلى ذلك."
حتى أن صوم رمضان بالنسبة للكثير منهم يعد شيئاً قليلاً:
_"كيف لا تصوم كل إثنين وخميس مثلما كان يفعل النبى محمد؟"

ودائماً ما كان يرد فى سياق المناقشة _ بقصد أو بدون قصد – اللوم تجاه عدم الالتزام التام بممارسة الشعائر. إن الضغط الذى يمارسه هؤلاء على أنفسهم وكذلك على الآخرين لهائل جداً. هل كان يقصد الله ذلك عندما وجّه نداءه إلى المؤمنين؟
"إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ" (البقرة : 185)
 ولقد وعظ النبى محمد  طبقاً لذلك قائلاً:
-"يسروا على الناس ولا تعثروا." "وأوغلوا فى الدين برفق.... فلن يمل الله حتى تملوا." -"وخير الأعمال أدومها وإن قل."

علينا ألا نفرط كثيراً فى تطلعاتنا طالما أننا فى إطار العمل الإسلامى فليس هناك داعى لتضييق الحياة على أنفسنا. وأنه ليس من واجبنا محاسبة الآخرين, فليس هناك إصبع يشبه أخيه, وكذلك الحال بالنسبة للبشر. فالقرآن يعظنا:

"وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ")لقمان:18(
لقد ثبت أن الإسلام قاعدة طيبة. فرغم كل اختلافاتنا تعلمنا أن نتوافق مع بعضنا البعض. ولقد شرح لى منعم ذات مرة كيف أنه يستطيع أن يتحمل كل المضايقات قائلاً:
_"عليك أن تتخيلى شكلهم وهم يركعون ويسجدون فى الصلاة معاً , وما يفعلون من أشياء أخرى فى سبيل الله."
لقد كان محق .. مبدئياً كلنا نريد أن نكون نفس الشئ, لهذا سرعان ما زاد شعور الجماعة فى صدورنا رغم كل اختلافاتنا. وبدأنا فى تدبر ماذا يريد القرآن قصده فى قوله تعالى:
" وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ") آل عمران : 103(
أعتقد أن هنا يكمن مفتاح التوافق والانسجام. "الحب" هنا ليس له علاقة بالصداقة أو التوافق .. نعم .. أو حتى له علاقة بالتعاطف. إن الأمر كله يعود إلى حكمة قديمة حديثة مرجعها إلى حديث رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم:
_"لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه."

هكذا بدأ فعلاً بدأ جو ودي فى الظهور. فكل مسلم صار أخاً للآخر, وكل مسلمة صارت أخت للأخرى. وأخذنا ذلك الشعور مأخذ الجد. فذات مرة قمت بإرسال أحد الطلبة الأتراك لكى يقوم علىخدمة لوحة العرض المعلوماتية – وكنت لا أعرفه فى ذلك الوقت – وأرسلته إلى منعم بهذه الكلمات:
_" منعم .. هذا الأخ عنده استفسار."
بعد مضى سنوات أخبرنى ذلك الطالب التركى عندما صار أحد قادة الجمعية , أننى أول شخص أطلق عليه كلمة "أخ" بغض النظر طبعاً عن أخوته فى العائلة, وأن تلك الكلمة كانت لها أكبر الأثر عليه.
هل حقاً تلك "التوافه" مثل اختيار الكلمات التى تصل إلى القلب ذات أهمية؟
نعم .. ألسنا فى حاجة ماسة إلى مراقبة ألفاظنا وتهذيبها؟
_"يا الله .. هبنى لساناً ذاكراً"
إن المسلم يعلم كم من الآفات والإشاعات والألفاظ السيئة تجرى على اللسان. وأنه ينطق الكلمة ولا يستطيع ردها. هذا ما تعلمته من "يلمظ", الأخ الأكبر لنورتن. أبداً لم أره يذكر شيئاً سلبياً عن الآخرين وكان يقول دائماً:
_"كل شخص مسئول عن أفعاله أمام الله .. ولو أننى تكلمت عن أخطاء الآخرين فإنى سوف أُسأل عن كلماتى .. فلماذا إذاً أفعل ذلك؟"

لهذا لم يكن "يلمظ" يتدخل فى شئون الآخرين, وكان دائماً ودوداً متعاوناً مع كل الناس. وطيبة قلبه هذه لم تتوقف عندما أتى أحد المتسولين, تعلوه القذارة, حيث ظهر ذات يوم ونحن نتناول الإفطار فى إحدى أمسيات رمضان الجميلة. وطلبت من "يلمظ" وكان معى طالبتين أخرتين أن ينتهى سريعاً من أمر هذا "النائم" قدر المستطاع. فنظر إلينا مندهشا وسألنا:
_"لماذا إذاً .. إن لدينا طعام كثير!"

ثم قام بالتوجه إلى هذا المتسول وطلب منه بلطف البقاء معنا. نعم .. لقد وضع فى يده طبق وأمسكه الشوكة, بل قام بخدمته والقيام على تلبية رغبته أثناء تناول الإفطار.

أبداً لم أشعر فى حياتى بالخجل من نفسى مثل الذى شعرت به فى ذلك اليوم. خطوة خطوة بدأت أدرك معنى أن تكون مسلماً. 
يذكر فى القرآن:
" لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوآ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ")  البقرة : 177(

وطلب الله عز وجل من نبيه محمد – صلى الله عليه وسلم – أن يخبر بعض المسلمين من الأعراب بما يلى :

" قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" )الحجرات :14(

لهذا السبب أنا لست مؤمنة فقط لأنى أصلى وأصوم وأرتدى الحجاب.
أليس الله أقرب إلى من حبل الوريد؟ 
ألا يعلم ما فى قلبى؟

" إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ") فاطر : 38(

ذات مرة قال النبى محمد – صلى الله عليه وسلم:
 "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه وفقاً لما جئت به."

إن "الإيمان" هو الرقى لكلمة "الإسلام".

ولكن الإسلام هو تصديق للأفعال الناتجة عن الإيمان, فلا يمكن التفكير فى أحدهما دون الآخر. فإما أن تكون مؤمناً أو شئ آخر غير ذلك على الإطلاق .. ولكن الله هو الرحمن الرحيم.

أخبر أنس بن مالك , وهو أحد صحابة النبى _ صلى الله عليه وسلم _ قائلاً: "كنت خارجاً أنا ورسول الله من المسجد عندها دخل علينا رجل, وقال: "يا رسول الله, متى الساعة؟" فسأله الرسول: "وماذا أعددت لها؟" فظننت أن الرجل قد انزعج لهذا السؤال, ثم قال: "يا رسول الله, لم أكن أصوم دائماً, وكنت أصلى نادراً وأذكى قليلاً. ولكنى أحب الله ورسوله." فرد عليه الرسول: "المرء مع من أحبب."