مسلمة ألمانية تغادر وطنها

وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ   ( لقمان: 34)

أخذ الوقت يمر..
ومضى علينا الزمن أيضاً دون أن نشعر ..
وصرنا على أى حال من"قدامى" الشباب فى الجمعية الطلابية, الذين لم يعودوا يدرسوا بالجامعة. وصارت هيئة الجمعية تتكون من شباب صغير, كانوا حتى لم يبدءوا دراستهم عندما قمنا بتأسيس جمعيتنا.

درس آخر تعلمناه .. كل شئ قابل للإحلال. إلا أننا كنا سعداء, ذلك لأن الجمعية ظلت مستمرة, بل صارت أنشط مما كانت عليه.
وحقاً أننا كبرنا .. وأنهينا دراستنا .. وأسسنا عائلات .. والكل صار فى طريقه, ولم يعد يرى أحدنا الآخر. فى تلك الفترة أصبحت أنا ومحمد أبوين لطفلتين: "تسنيم" و"يسرا" .. واللتان بدلتا حياتنا كلياً.
وشعرت أنا ومحمد بالسعادة والامتنان لله عندما أنجبنا تسنيم, فلقد جاءت إلى العالم بعد فترة طويلة من الانتظار .. قبلها كنت حامل فى جنين, لكنّى منيت بسقوطه.
 وفور ولادتها استهلها محمد بترديد الآذان فى أذنها عندما كان موجوداً بجانبى فى غرفة الولادة:
- "الله أكبر  الله أكبر
أشهد أن لا إله إلا الله .. أشهد أن لا إله إلا الله
أشهد أن محمد رسول الله .. أشهد أن محمد رسول الله
حى على الصلاة .. حى على الصلاة 
حى على الفلاح .. حى على الفلاح 
الله أكبر  الله أكبر 
لا إله إلا الله"

اسم تسنيم مأخوذ عن القرآن, وهو اسم بئر فى الجنة سوف يشرب منه المؤمنون إن شاء الله. بعد ذلك على الفور صرت "مرة أخرى" حامل .. فصٌدمت عائلتى, ذلك لأن فارق العمر بين الطفلتين عام ونصف فقط. تماماً مثل فارق العمر الذى بينى وبين أخى .. ولكن الزمن قد تغير بطريقة واضحة.

ومرة أخرى أنجبت بنتاً, استقبلها محمد مردداً الآذان فى أذنها. ولقد سميتها "يسرا" . هذه الكلمة وردت فى القرآن بمعنى التخفيف والتيسير .. يسر الله لنا أعباءنا! وفرحت أنا ومحمد كثيراً بطفلتينا , على العكس من أمى, التى خاب ظنها, ذلك لأننا أنجبنا إناثا , قائلة: 
_"إن مشاكل البنات تصبح أكثر من مشاكل الصبية عندما يكبرن. وربما ترغبان كليكما فى أن يرتديا الحجاب. أليس كذلك؟"
وعموماً فقد صرت بعد ولادتى ليسرا فى خضم هائل من الانتقادات.
عندما أسلمت قالوا لى: 
_" إن هذه حياتك, اعملى ما ترينه صواباً."
 .. أما الآن أسمعهم يقولون لى:
_"إنك لا تريدين أن تتسببى فى المصاعب لبناتك فى حياتهن, أليس كذلك؟"
بالطبع لم نرغب أنا ومحمد فى أن نعسر الحياة على طفلتينا , كما أننا لم نفكر  مطلقاً من قبل ما معنى أن يكون لدينا أطفال. وأنا لم أنوى أن أضع شهادتى الجامعية فى الدرج ليعلوها التراب, وأن أظل طوال الوقت أقوم بالأعمال المنزلية .. أما الآن فقد تحملنا فجأة مسئولية هاتين الطفلتين الصغيرتين, وبدأنا نسأل أنفسنا كيف سيكون مستقبلهما. فهل ستقوم تسنيم ويسرا بملئ إرادتهما عن اقتناع أن يشهدا "أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله"؟
أم أنهما سيصبحان "ألمانيتان" تماماً خارج المنزل؟
أم هل سينشئان على أنهما لا ينتميان إلى أى مكان, مثلما تنبأ لى أبواى ؟
أم هل سيكونان مثل هؤلاء الأطفال الذى رأيتهم فى المسجد؟؟

الحمد لله أن صارت لدى فرصة تمكننى من رعاية طفلتّى. فلقد قررت أن أمكث فى المنزل وأرعاهما. مما أدى إلى غضب أبى, فهو يقصد أننى بذلك أضيع قدراتى. وبالفعل كانت الناس دائماً ما تسألنى لماذا لا أعمل. فأن أكون أم وربة منزل فإن ذلك لا يتناسب مع مستوى فتاة أوروبية شابة مثقفة. فالعمل تعده النساء جزءاً  أساسياً فى حياتهن.فى ألمانيا, فى أبريل عام 1994 أشارت إحدى الإحصائيات إلى أن نسبة 40,4 % من الأمهات وكذلك 44,1 % من الأمهات "الغير متزوجات" * يعملن ولديهن أطفال أقل من 3  سنوات. هنا يحمل الطفل اسم جده لوالدته.

* أى امرأة أنجبت من صديقها دون أن يتزوجها , ثم تركها ليعيش مع صديقة أخرى وتعيش هى مع صديق آخر.                                         تعليق المترجم
إن نموذج الأمومة لم يعد مطلوباً فى مجتمعنا. لسنوات طويلة تَصَدََّرَ كتاب لإحدى عالمات النفس قائمة المبيعات بعنوان : "الفتيات الطيبات يذهبن إلى السماء, أما الفتيات السيئات  فيذهبن إلى أى مكان."وكان الراديو يذيع دائماً أغنية :"الفتيات يردن أن يتسلين. GIRLS WANNA HAVE FUN  

بل صارت العائلة شيئاً فشيئاً  تفقد مكانتها كطريقة "طبيعية" فى الحياة.  والزواج لم يعد من الأشياء التى يقتنع بها الشباب فى أيامنا هذه. وداخل العلاقات الألمانية صار "الحب" و"العشق" ذا قيما أكبر من "العائلة", وإذا اتضح فجأة أن تلك العلاقة لا تؤدى إلى الانسجام المطلوب, بل وتتسبب فى مزيد من التوتر .. تنفض فى الحال.
فى أمريكا تجد حالة طلاق بين كل زيجتين . تقريباً نصف أطفال  الولايات المتحدة الأمريكية يكابدون مشكلة انفصال أبويهم. وربما عندما يكبر هؤلاء الأطفال يقومون بنفس التصرف, على العكس من الأطفال  الذين تربوا داخل أسرة مستقرة.. هذا ما أظهرته  دراستنا لإحدى الإحصائيات .. لكن من صار يهتم؟!

لقد أصبحنا مرنين. حتى إنك لتجد أن موضوع إلغاء الزواج  صار يناقش فى بعض الولايات الألمانية.  بل صار هناك بدائل أخرى للزواج يتم الدعاية إليها. 

ولقد صار 35% من أطفال فرنسا غير شرعيين .. من سفاح. وأكثر من ثلث الشباب فى أمريكا غير متزوج, وصار عدد الشواذ جنسياً آخذاً فى الزيادة, حتى أصبحوا هدفاً لخبراء التسلية. ويقدر عدد الشواذ  جنسياً بـ 10% من رجال أمريكا و6 % من نسائها .. نوع من الإيمان بالقدر فى هذه الحياة.  وهناك الكثير من المثقفين يؤمنون بذلك , فيقول أحدهم:
-"هكذا أنا .. وهذا ليس خطئي."
لقد صار الجنس جهراً بفضل وسائل الإعلام. وصارت الكلمات الجنسية الفاضحة يتردد ذكرها فى برامج تلفزيونية لا حصر لها, وصار يناقش فى تلك البرامج كيف؟ ومتى ؟ وأين؟ ومع من؟, ولماذا؟ يمارس الجنس. فقبل أن تموت عليك أن تجرب كل شئ, وترى كل شئ ممكن. وكلما كان الشئ .. أى شئ .. أكثر إثارة, كلما كان أفضل.

فلقد تعلمنا أن رؤية الجسد العارى شيئاً طبيعياً. لذا أصبحنا فى حاجة إلى أشياء جنسية أخرى أشد أغراً تسرح بخيالنا كى نصل إلى حد الإثارة. وصارت الإغراءات "النشاطات" الجسدية هى كل شئ فى مجتمعنا. وصار الناس الذين يعرون جسدهم أكثر قبولاً من قرناءهم المتحفظين.
 _ "كيف يمكن إذاً أن يربى طفلاً على الطريقة الإسلامية فى مجتمع كهذا؟ 
_ "سؤال جيد .. سؤال كثير ما يوجه إلىّ : كيف ستربين أطفالك على الطريقة الإسلامية فى مجتمع كهذا؟  "أليس الأطفال أنفسهم هم الذين يعانون من أكثر أسباب انحطاط المجتمع الألمانى؟
إن علماء النفس يقررون أن الأطفال الذين يعيشون "بلا أب" عبارة عن "مجموعة من المشاكل والمخاطر". والطفل الذى يعيش مع أحد أبويه أكثر ميلاً إلى الاضطرابات النفسية, ورفضاً للدراسة, وإدماناً للمخدرات. كما أن الفتاة فى جو كهذا كثيراً ما يتم استغلالها جنسياً, أو تحمل وهى مازالت فى سن المراهقة. وفى الولايات المتحدة الأمريكية تجد أن ثلثى المغتصبين, وثلاثة أرباع القتلة من الشباب, ونسبة شبيهة أيضاً بين المساجين .. تربت من غير أب.

وأنا أفكر فى مستقبل أطفالى فعلاً. ولا أريد لابنتىّ أن يكونا من بين نسبة الـ 20% من الألمان الذين يشعرون بالوحدة فى هذا العالم .. عالم لم يعد فيه أى استقرار, عالم صار كل شخص ينظر إلى نفسه فقط. لابد لهما أن يشعرا أنهما مقبولتان كما هما, ذلك دون أن يضطرا إلى خلع ثيابهن من أجل الحصول على هذا القبول.
هذا التأكيد الشديد على أهمية الجنس فى مجتمعنا أدى إلى أن النساء بدأت تشعر وكأنهن هدفاً جنسياً .. وهن فى ذلك يتعرضن إلى الاستغلال بشدة فى بحثهن عن الحب والقبول من المجتمع. إن تطور الشخصية السليمة أهم من الجاذبية الجنسية.
 أنا لا أقول  أن نهمل أجسامنا, ولكنى لا أؤيد النظرية الأوروبية فى العرض. نحن لسنا فى حاجة إلى الحرية الجنسية المطلقة, بل إلى مجتمع يتعاون فيه الناس. 
لقد صار العناق الذى يعد علامة على الصداقة من النادر  رؤيته فى مجتمعنا. بل وإن قام أحد بتقبيل طفل ظن فيه الناس ظن السوء. وإذا عانق رجل صديقه ظن الناس على الفور أنه "لوطى" .

فى إحدى الدراسات الاجتماعية قرر أحد البريطانيون الذين اعتنقوا الإسلام بأن العلاقات الإنسانية مفقودة داخل المجتمع البريطانى. فالرجل يمكنه فقط أن يمارس الجنس مع صديقته. أما المسلمون على العكس من ذلك يرون كل تلك الأشياء السابق ذكرها شيئاً طبيعياً. فهم يصلون  متراصين الكتف فى الكتف والقدم فى القدم, كما أنهم يتصافحون باليد والأحضان .. وكذلك الرجال.

وأنا أتمنى لطفلتىّ أن يكبرا ولديهما وعى بذاتهما كامرأة, بعيداً عن مثاليات الحضارة الغربية, حتى يصبح لهما شخصية قادرة على تحمل المسئولية, شخصية مدركة لطبيعة المجتمع الذى تعيش فيه, وأن يصبح عندهما اهتمام بالأشياء الأخرى أكثر من الاهتمام فقط بأنفسهما.

إن الإسلام هو أفضل البدائل بالنسبة لى فى كل حال من الأحوال.

وبالفعل .. كان عند أمى حق عندما تنبأت لى بأن تربية أطفالى تربية إسلامية فى ألمانيا ستحدث لنا الكثير من المشاكل ولأطفالنا كذلك. فعلاً .. فالموقف فى ألمانيا بل وفى أوروبا كلها ليس سهلاً للمسلمين بهذه الدرجة.
تبدأ أول هذه المشكلات عند اختيار اسم المولود. طبقاً للحديث الشريف .. من واجب الوالدين  اختيار اسما جميلاً لطفلهما.  ولسوء الحظ لا تتفق السلطات الحكومية الألمانية مع الوالدين  فى مدى جمال اسم الطفل. وكان علينا بالنسبة لاسم تسنيم و كذلك اسم يسرا أن نأتى بشهادة من السفارة المصرية تفيد بأن تسنيم ويسرا أسماء موجودة فعلاً فى الواقع, ونصحونى بأن أعدل عن هذا الاسم "الغريب " .. يسرا, وأن أختار اسماً ألمانياً مألوفاً. ذلك لأن الزواج بالأجانب فى كثير من الأحيان ينتهى بالطلاق.  هنا يتحتم  على الأطفال المساكين أن يعيشوا طوال حياتهم يحملون أسماءهم الأجنبية الغريبة. على كل .. فقد ارتضت السلطات أخيراً بهذين الاسمين .. ولكن هذا لا يحدث دائماً.

حدث ذات مرة أن أراد أحد أصدقائنا أن يسمى ابنه "طارق". وطارق هذا هو اسم لأحد قادة الجيوش العربية, كما أنه اسم عربى شائع .. لم توافق عليه السلطات  الرسمية الألمانية .. فقط المحكمة هى التى سمحت للوالدين بهذا الاسم.

على العكس من ذلك سمح لإحدى الفتيات أن يطلق عليها اسم "منال" .. ولكن على شرط أن يكون الاسم مركب يمكن من خلاله معرفة "جنس الطفل". وكانت الأسماء التى توفى بهذا الشرط طبقاً لمطلب السلطات, والتى تعتبر بدورها صالحة للاستخدام مكتوبة فى قائمة. كان من بين الأسماء المذكورة فى تلك القائمة أسماء مثل:
"أُرطَه" (Urta)
و "جِيشَا" (Gischa)
و "هُوشكَا"(Huschka)
و "فُوكَّا") (Fukka
.. كل هذه الأسماء  "واضحة!" و "شائعة!".
بعد ذلك تأتى مشكلة التعليم فى الحضانة بالمدرسة .. تجد أن المدرسين المتحمسين يحاولون تعليم الأطفال المسلمين أسلوب الحياة "الغربية". أما الموقف الحيادى للمدرسة تجاه التربية الإسلامية للأطفال الذين تربوا عليها على يد والديهم ليست مجالاً للنقاش. فالتعليم مبنى على قيم ومثاليات المجتمع الغربى. ويحدث كثيراً أن يلجأ الآباء المسلمون إلى القضاء لعدم إجبار أبنائهم .. على  الأقل .. على المشاركة فى حصص السباحة المختلطة, وأن يسمح للفتيات بارتداء الحجاب أثناء فترة الدراسة.
بعد التخرج تبدأ الحياة المهنية .. ومنظور العمل بالنسبة للفتاة المسلمة ليس وردياً فى واقع الأمر. فذات مرة لم يسمح لفتاة تركية بالعمل  كممرضة بإحدى المستشفيات  بحجة أن ارتداء الحجاب أثناء عملها داخل المستشفى "غير صحى". رغم أن الكثير من الراهبات يعملن داخل نفس المستشفى . بالطبع تعمل هؤلاء الراهبات وهن مرتديات الزى المميز لهن أيضاً.

هناك أيضاً ألمانية مسلمة لم تحصل على حقها فى إعانة البطالة, ذلك لأنها نفسها هى السبب فى عدم حصولها على وظيفة من الأساس .. ذلك لأنها تصر على ارتداء الحجاب. فكان عليها اللجوء إلى القضاء لإثبات حقها فى الحصول على إعانة البطالة. حتى أنه كانت هناك فتاة أخرى لم تستطع العمل كبائعة .. ذلك لأن بحجابها ستتسبب فىصد الزبائن عن الدخول إلى المحل.

الآن لم يبقى أمام طفلتى وظيفة متاحة لهما بعد تخرجهما إلا وظيفة .. خادمة.

ولكن أمى ليست محقة, حين تعتقد, أن هذا النوع من المعاملة المتعسفة تقتصر فقط على النساء. لقد كان هناك ألمانياً مسلماً .. طالب .. طُرد من وظيفته كحارس ليلى دون أى إنذار سابق .. السبب كان عقيدته. فهذه العقيدة تعتبر خطراً يهدد الأمن.
كما كان يوجد هناك أيضاً شاب ألمانى مسلم .. حاصل على شهادة جامعية .. عاطل كذلك. سٌئل ذات مرة إن كان لديه رغبة فى التجسس على أخوته فى الدين, بدلاً من بطالته.عالم عربى فى الفيزياء رفض طلبه للحصول على الدكتوراه فى الجامعة الألمانية .. فقال له البرفيسور:
_"لو كنت من تل أبيب أو من بوسطن .. لام كان هناك أى مانع .. ولكنك تعلم جيداً أن هذا البحث يمكن استخدامه فى تكنولوجيا صناعة الأسلحة."

بالإضافة إلى كل ذلك تأتى أيضاً المشاكل اليومية فى حياة المسلم فى ألمانيا .. كمشكلة النحر .إن الإسلام يفرض .. وكذلك اليهودية .. ذكر اسم الله عند النحر. و يسمح للجالية اليهودية داخل ألمانيا بالذبح طبقاً للتعاليم الموسوية .. أما المسلمين فلا . فلقد رفضت محكمة القضاء الإدارى طلب قدمه المسلمون فى مدينة ميونخ عام 1996 للسماح لهم بالنحر .. وكان تعليل القاضى:
_"ليس من الضرورى تعذيب الحيوانات لأسباب دينية. وإن دعت الضرورة فليستغنى المسلمون عن تناول اللحم مطلقاً."

ثم صار هذا القرار ملزماً للمسلمين بالطبع.. بينما ليس ملزماً لليهود, كما لو أن الحيوانات تميز بين اسم الله بالعبرية أو باللغة العربية إذا ذُكر عند ذبحها.

كما أن الجمعيات المسلمة فى ألمانيا لا تحصل على أى حقوق أكثر من تلك الحقوق التى يحصل عليها أى نادى من نوادى الفيديو .. كما قال أحمد .. وأن الحضانات والمدارس لا تحصل على دعم مالى من الحكومة الألمانية مثلما تحصل نظيرها من المدارس الدينية المسيحية أو اليهودية. والحال كذلك بالنسبة للمستشفيات وبيوت المسنين الإسلامية. حتى أن تشييع الجنازة بالطريقة الإسلامية يعد شيئاً بالغ التعقيد.

لذا لابد من التعاون على تحقيق مطالب الجالية الإسلامية مقارنة بحقوق الكنائس عندها سوف تحل الكثير من مشاكل المسلمين داخل المجتمع الألمانى. إلا أن الدولة الألمانية بعيدة جداً عن تقديم مثل هذه الحقوق القانونية للمسلمين. أضف إلى ذلك أنه لا بد من الاعتراف بأن الإسلام فى ألمانيا ليس أحد الظواهر التى بدأت لتنتهى .. بل لتبقى. وأن أى سياسي ينبغى عليه أن يقول لناخبيه أن يتعودوا على  منظر الحجاب والمآذن كذلك داخل منطقتهم.

بل إن المساجد والمآذن موضوعاً معقداً فى حد ذاته. فكل يوم جمعة يتصل جيراننا بالشرطة لأن عدد كبير من الأجانب يتجمع .. هم يجتمعون بالطبع لأداء صلاة الجمعة, وهذا ما تعلمه الشرطة منذ فترة طويلة. لكن الجيران على العكس يبدوا أنهم لم يستوعبوا هذه النقطة. وحدث ذات مرة أنه عندما قمنا بإحضار سيارتنا التى تم جرها من أمام الجامع قال لنا أحدهم:
_"من الأفضل ألا تركنوا سيارتكم أمام المسجد مرة ثانية. ففى رمضان تجر السيارات دائماً من أمام المسجد, حيث يكون الانتظار ممنوع."

على الرغم من أن المساجد تقع فى الحوارى الخلفية. كما أنه من الصعب الحصول على تصاريح بالبناء. وفى مدينة "آخن" قامت مظاهرة وطنية ضد العنف والإسلام والإرهاب عندما  عُلم بالتخطيط لإنشاء مركزاً إسلامياً, وأخذت تلك المظاهرة تنادى بـ:
_"معلومة هامة إلى مواطنى آخن .. احذروا البدايات!"
وفى مدينة "ذو إست" قام "الوسط المسيحى"  .. حزب سياسي صغير .. بعمل استفتاء عام لنفس السبب منادين بـ:
_"مركز للإسلام فى ذو إست؟ المد الإسلامى آخذ فى الزحف."
_"حالات فردية؟"
_"بالطبع لا."
 إن لجنة "العنصرية وكراهية الأجانب"  المنبثقة عن البرلمان الأوروبى أثبتت عام 1991 فى تقريرها أنه قد بدأ منذ عام 1986 تنتشر الرهبة من الإسلام فى بلجيكا , ومعارضة واسعة ضد بناء أحد المساجد فى فرنسا" وكذلك  الرفض .. نعم الكراهية تجاه الإسلام فى إنجلترا.  وفى عام 1987 صرح عمدة مدينة "إيشوى" فى الدنمارك بأنه لا يرغب فى السماح بقبول أى مهاجرين إلى إيشوى, مدعياً أن الأتراك المهاجرين سيجعلون من إيشوى "خومينية"

"DIE WELT" صحيفة ألمانية مشهورة بمعنى "العالم" نشرت فى عدد 19 مارس 1994 طبعة تمهيدية لكتاب جديد عن الإسلام. كان الكاتب يتكلم فيه عن الحركة الإسلامية الأصولية فى أوروبا. وكان من بين ما تكلم عنه فى هذا الكتاب: 
"ظلام الجهل الذى يعيش فيه المتعصبون"
و "ليل المحرمات والجبر على الإيمان"
و "نظرة الحياة القاتمة لنساء بغيضة يرتدين السواد". وذكر كذلك
"حق الحياة" لمواطنى الدولة الأساسيين, حيث أنه من حقهم "الدفاع" عن أنفسهم ضد "جحافل الهجرة الغير شرعية" قائلاً:
_"من ذا الذى  يقبل بأن يكون هناك دين يصر على السيطرة على زمام الأمور ولا يمكن السيطرة عليه فى بداياته, و يقبل كذلك أن يظل الثانى على الدوام؟"

إن الشعب الألمانى يكره أن يستفز .. ولكن أليس من الاستفزاز أن نسمح لأناس كهؤلاء ضيقى الأفق بالعيش فى بلدنا وأن يعاملوا الأجانب بهذه الطريقة, بدلاً من أن يتبنوا طريقتنا الحديثة فى التفكير؟

ذات مرة قال لى أحد المدرسين فى الجامعة:
_"عندما ترتدي المرأة الحجاب فإنها بذلك تريد أن تقول لى أنها أفضل منى."
وكيف ذلك .. أليس أوروبا هى تاج الحضارة بلا منازع؟!
ربما الآن تقول لى ما سمعته أنت مرات عديدة:
_"ولكن المسلمين ملامون .. فهم لا يستطيعون التكيف مع المجتمع."
"_أنا أسألك .. أى منطق هذا الذى تقول به؟“
أليس اللوم يقع على المجتمع نفسه الذى يتجاهل الغرباء؟
اللوم فقط على الغريب الذى وجد فى نفسه "البجاحة"  وأتى من بلده ليعيش هنا  .. أليس كذلك؟ 
ولكن ماذا تقول للأقليات الأخرى من اليهود والزنوج والمعوقين؟!
ماذا تقول لأطفالى؟
هل تقول لهم أن ألمانيا ستمنحهم الحرية ليكونوا مثل الآخرين؟
كيف ذلك وأبوهم مصرى؟
ويحملون اسماً عربياً؟
ولو أنهما ذات يوما .. رفضا ألا يعتنقا الإسلام .. معاذا الله .. كما تتمنى عائلتى دائماً .. فلن يكونا أبداً مثل الألمان.
ولكن أنا الذى يلقى اللوم على .. فلماذا تزوجت بأجنبي؟
ولماذا أنجبت منه طفلتين؟  بل وسميتهما أسماء "عربية".
ألم يحذرونى فى السلطات الألمانية عند تسمية بناتى مثل هذه الأسماء؟

إن ألمانيا بلد ديمقراطى يحدد فيه الشعب من له مكان هنا , ومن ليس له. كما أنه إلى وقتنا هذا يعد الأحنبى "غير محبوب" فى ألمانيا, وفى بقية أوروبا كذلك. ودائماً ما يكون هؤلاء الأجانب ضحايا للعنف والعنصرية. 

_"ولأن هؤلاء الأجانب .. القادمين من العالم الثالث .. يسهل تحديد هويتهم , يقعون بسهولة ضحايا للعنف والعنصرية."
فطبقاً لما نشر فى أحد التقارير الخاصة بلجنة (العنصرية وكراهية الأجانب) تم اغتيال 19 أفريقي وشخص رومانى بين عامى 1987 و 1990.
_"على الأقل لم يكن لدى نصف عدد القتلة سبب آخر غير الرغبة فى قتل الأجانب."

وفى إحدى القضايا قام 6 من المراهقين بضرب أحد الآباء التونسيين, وقاموا بركله حتى الموت .. هكذا بكل سهولة .. وقال أحد الضباط الذين قاموا بالقبض على هؤلاء  المراهقين .. منكسر النفس  :
_"أكثر ما صدمنى أن هؤلاء الصبية ينقصهم التفاهم."

وفى قضية أخرى قُتل شاب مغربى  .. فقط لأنه كان موجود فى المكان الخطأ وفى التوقيت الخطأ . واعترف الجانى بأن ذلك كان "خطأ"  .. فهو كان يقصد قتل أحد الصينيين! وفى عام 1996 قرر المحققون الألمان أن أغلب المراهقين ممن ارتكبوا جرائم العنصرية والعنف ينقصهم التفاهم مع الآخرين:
_"إنهم يستمتعون بضرب الآخرين"

والساسة أيضاً ينقصهم هذا التفاهم .. على أية حال فإن المساواة أمام القانون متاحة أيضاً أمام الأجانب. وفى حالة التعدى عليهم فإن القضاء يفتح لهم أبوابه. بالمناسبة .. ليس فى استطاعة الشرطة التواجد فى كل مكان ولا فى كل وقت.

فى فرنسا على الأقل يوجد قانون ضد العنصرية. لكن هذا القانون يقيد استخدامه دائماً فى ساحات القضاء. لهذا يجب حماية "مجموعة من الناس" ضد التمييز. ولقد نجح القضاء فى تعريف مفهوم "مجموعة من الناس" .. على هذا فإن الأجانب لا يشكلون أى مجموعة. 



والقضايا التى تُرفع بسبب التعرض لتعليقات عنصرية يتم رفضها, لأنها تتحرك فى إطار"الكلام الحاد" أو تعتبر "رأياً سياسياً". بينما يكون الأمر صعباً, بل مستحيلاً أن تثبت أن أحد من رجال الشرطة هو الذى قام بنفسه بإصدار هذه التعليقات العنصرية. وإن تجرأ أحد من الأجانب على سب هذا الشرطى بقوله:
_"أنت عنصرى"
أو _ "أنت فرنسى قذر"
عندئذ سيتم محاكمة هذا الأجنبي بتهمة العنصرية على الفور. لذا كان من الصعب جداً إثبات الدليل على العنصرية فى قضية 3 من الأفارقة الشماليين .. وهذا كان واضحاً على الغاية. فحدث أنه كان هناك ملهى ليلى فى "مولكِين" .. إحدى المدن فى وسط فرنسا .. هذا الملهى يقوم أساساً باختيار زبائنه على أسس عنصرية. ولقد كان هناك صحفى طيب دخل هذا الملهى مرتدياً بنطلون جينز ورباطة عنق, بينما تبعه ثلاثة من الشباب العرب يرتدون ملابس أنيقة ورباطة عنق كذلك. ولكن لم يسمح لهم بالدخول. بل وأدان وكيل النيابة تصرفهم قائلاً:
_"إنكم لا تقومون بمهمة إعداد البحث مثل هذا الصحفى. وإنما تقومون بمهمة الاستفزاز, والمستفزون فى فرنسا يطاردون فى ساحات القضاء."

لقد اصبح الأجانب يثيرون الاستفزاز فقط بوجودهم .. هم يثيرون الاستفزاز لأنهم شئ مختلف.
أحد الألمان الصلع "النازيين" قال مرة فى أحد البرامج التلفزيونية:
- "إنهم لا يملكون أى نزعة ألمانية."
ماذا يكون ذلك بالتحديد؟
من يمكنه معرفة ذلك بالفعل؟
ألم تتأثر اللغة الألمانية نفسها بكثير من المؤثرات الخارجية؟
لو لم يحدث ذلك لكنا نزال إلى الآن نعيش فى الكهوف, ونلبس الفرو, ونحل منازعاتنا بالنبوت .. أليس كذلك؟
واحتراماً لوجهة نظر هؤلاء الصلع فى ألمانيا يصبح من الواضح معرفة جذورهم.
ولكن بجد .. كان هناك اثنين من علماء الاجتماع هما "لوتس هوفمان" و "هربرت إيفن" كتبا ذات مرة عن الكراهية ضد الأجانب, ووصفاها بأنها:
 "إصرار عنيد على صورة وصف مجتمع عنصرى متجانس ثقافياً داخل جمهورية ألمانيا الاتحادية,وأنها "رفض للتعلم."

إن التحول الثقافى داخل أى مجتمع والذى يرجع أيضاً إلى مؤثرات أجنبية لم يتوقف أبداً فى فترة من فترات التاريخ لكى نقول:
_"ذلك ما كنا نبغ .. الثقافة الألمانية."

ولكن ليس ألمانيا فقط, بل أوروبا كلها بدأت فى عزل نفسها.

_"سياسة الأجانب ؟"

هذا الشئ غير موجود مطلقاً فى البرلمان الأوروبى .. مع أن كل الأجانب موجودون فى أوروبا. وذات مرة قال لى أحدهم أثناء الحملة الانتخابية للحزب الوطنى الديمقراطي المسيحي عندما طلبت منه إحدى النشرات الخاصة بمسألة الأجانب:
_"مسكينة أوروبا .. لقد بدأت الحدود تختفى وسينتهى العالم بانتهاء أوروبا."

أنا لم أصبح مسلمة ذلك لأن التطور فى المجتمع الأوروبى نفسه لم يعد يعجبنى .. ولكنى كلما كنت مسلمة كلما أرى بصورة أوضح الاختلاف بين الأشياء. ودائماً ما كنت أطالب دائماً بالبقاء فى ألمانيا .. ذلك لأننا لو ذهبنا لضيعنا فرصة تغيير أى شئ فى مجتمعنا, وأنا لا أندم على ذلك كمسلمة فقط, بل  أندم أكثر  كألمانية.

فعلى كل فألمانيا .. وطنى .. هى التى تقوم بحفر قبرها بيدها .. ذلك لأن الجمود معناه الموت.
ولكن كيف يمكنك أن تشرح ذلك لطفل؟
كيف تشرح له لماذا يهان فى الشارع؟
كيف تشرح له لماذا لا يرغب أولاد الجيران فى اللعب معه؟ ولماذا لا يرغبون فى وجوده  .. هنا فى ألمانيا؟ 
هل عندى حق فى أن أضن على أطفالى بمستقبلهم فى ألمانيا؟لقد رأيت أطفال يُرسلون من ولاية إلى ولاية .. من لغة إلى لغة .. من مدرسة إلى مدرسة. هذا أيضاً لا يعتبر حلاً. إن الأطفال يحتاجون إلى مأوى .. إلى مكان يشعرون فيه بالانتماء. 
هكذا كان علينا أن نرحل  طالما زالت الفرصة سانحة.
طالما لم يصل أولادنا بعد إلى سن الذهاب للمدرسة.
طالما كان باستطاعتنا التعود على بيئة جديدة.
طالما لم تنقطع صلة محمد بوطنه .. 9 سنوات فى ألمانيا تعتبر زمناً طويلاً.
ذات يوم قمنا بحزم أمتعتنا وسافرنا إلى مصر .. بلد الأهرامات .. بلد الصحراء .. بلد التراب. فى مصر يصبح أطفالى فى وطنهم .. فزوجى مصرى .. وفى مصر ينسب الأولاد إلى أبيهم. هكذا تصبح تسنيم ويسرا مصريتان. وكان شيئاً جميلاً أن يكون لديهما شعرا أشقر وبشرة لونها أفتح من بشرة الآخرين.
_"وماذا عنى الآن؟"
بالطبع أفتقد عائلتى .. أفتقد صديقاتى .. وأفتقد لغتى .. وأفتقد مدينتى الخضراء والشتاء البارد والشوارع النظيفة. إن مصر من دول العالم الثالث .. وهذا شئ لا ننكره. ولكنى أعتقد أن ألمانيا لم تعد وطنى .. بعد أن أصبحت مسلمة.
عندما غادرت ألمانيا قالت لى جدتى: _"مكانك حيث يوجد زوجك."
كما أنها هى الوحيدة من بين أفراد عائلتى التى تعتبر رحيلى إلى مصر أمراً طبيعياً تماماً.
إنها محقة .. فأنا أنتمى إلى ما تنتمى  إليه عائلتى ..  وعائلتى تنتمى إلى مصر. هنا صار يطلق على "أم تسنيم" .. اسم ابنتى الكبرى. لا أحد يهتم من أين أتيت. وكمسلمة أصبحت أخت فى الإسلام, وصار لدى مكان فى المجتمع. فلقد أصبحت فى الحال "مصرية" .. أو ربما لم أعد "ألمانية" خالصة.
أعتقد أنه كان قراراً سليما.
القرار بأن أغادر ألمانيا وأنزح إلى مصر.
لكن هذا فقط يعلمه الله.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم 
بسم الله الرحمن الرحيم
وَالْعَصْر
 إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ 

إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ